فصل: القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.الأهلية للاجتهاد:

بعد أن بينا ما فيه مجال للاجتهاد، وما ليس فيه مجال نبين من يكون أهلاً للاجتهاد.
يشترط لتحقيق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة:
الأول: أن يكون الإنسان على علم باللغة العربية وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليبها كسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة الاطلاع على لآدابها وآثار فصاحتها من شعر ونثر غيرهما، لأن أول وجهة للمجتهد هي النصوص في القرآن والسنة وفهمها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، وتطبيق القواعد الأصولية اللغوية في استفادة المعاني من العبارات والمفردات.
الثاني: أن يكون على علم بالقرآن، والمراد أن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن، وبالآيات التي نصت على هذه الأحكام، وبطرق استثمار هذه الأحكام من آياتها، بحيث إذا عرضت له واقعة كان ميسوراً له أن يستحضر كل ما ورد في موضوع هذه الواقعة من آيات الأحكام في القرآن، وما صح من أسباب نزول كل آية منها، وما ورد في تفسيرها وتأويلها من آثار، وعلى ضوء هذا يستنبط حكم الواقعة.
وآيات الأحكام في القرآن ليست كثيرة، وقد خصها بعض المفسرين بتفسير خاص. ومن الممكن أن تجمع الآيات المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع في مجموعة واحدة إلى كل الآيات القرآنية التي تضمنت أحكاماً في الطلاق، وكل الآيات التي تضمنت أحكاماً في الزواج، وفي الإرث، وفي العقوبات، وفي المعاملات، وفي غير ذلك من أنواع أحكام القرآن.
ومن الميسور أن يذكر مع كل آية ما ورد في الصحاح من سبب نزولها، وما ورد من الأحاديث التي فيها تبيين لمجملها، وما ورد من الآثار في تفسيرها، وبهذا تكون المجموعة القانونية في القرآن ميسوراً الرجوع إليها عند الحاجة، وميسوراً مقارنة مواد الموضوع الواحد بعضها ببعض، وفهم كل مادة على ضوء سائر مواد موضوعها لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومن الخطأ أن تفهم آية منه على أنها وحدة مستقلة.
الثالث: أن يكون على علم بالسنة كذلك، بأن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي وردت بها السنة بحيث يستطيع في كل باب من أبواب أعمال المكلفين أن يستحضر ما ورد في السنة من أحكام هذا الباب، ويعرف درجة سند هذه السنة من الصحة أو الضعف في الرواية. ولقد أدى العلماء للسنة النبوية خدمات جليلة، وعنوا بفحص أسانيدها ورواة كل حديث منها، حيى كفوا من جاء بعدهم مئونة البحث في الأسانيد، وصار معروفاً في كل حديث أنه متواتر، أو مشهور، أو صحيح، أو حسن، أو ضعيف.
وكذلك عني العلماء بجمع أحاديث الأحكام، وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال المكلفين، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع إلى ما ورد في السنة الصحيحة من أعمال البيع أو الطلاق أو الزواج أو العقوبات أو غيرها، ويستطيع أن يرجع إلى الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع واحد من موضوعات الأحكام، وعلى ضوئها يفهم الحكم الشرعي. ومن خير الكتب التي يرجع إليها في هذا كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني.
الرابع: أن يعرف وجوه القياس، وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي شرعت من أجلها الأحكام، ويعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل أحكامه، ويكون خبيراً بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم، حتى يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيراً أيضاً بمصالح الناس وعرفهم، وما يكون ذريعة إلى الخير والشر فيهم، حتى إذا لم يجد في القياس سبيلاً إلى معرفة حكم الواقعة، سلك سبيلاً أخرى من السبل التي مهدتها الشريعة للوصول إلى استنباط الحكم فيما لا نص فيه.
ومما ينبغي التنبيه إليه أمور ثلاثة:
أحدهما: أن الاجتهاد لا يتجزأ:
أي انه لا يتصور أن يكون العالم مجتهداً في أحكام الطلاق وغير مجتهد في أحكام البيع، أو مجتهد في أحكام العقوبات، وغير مجتهد في أحكام العبادات، لأن الاجتهاد كما يؤخذ مما قدمناه أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص واستثمار الأحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور المدينات دون العقوبات أو في العقوبات دون المدنيات، ولكن لا يتصور أن يكون قادراً على الاجتهاد في هذا الموضوع من الأحكام دون هذا. ولأن عماد المجتهد في اجتهاده فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي بثها الشارع في مختلف أحكامه وبني عليه تشريعه. وهذه الروح التشريعية والمبادئ العامة لا تخص باباً دون باب من أبواب الأحكام، وفهمها حق فهمها لا يتم غلا بأقصى ما يستطاع من استقراء الأحكام الشرعية وحكمها في مختلف الأبواب. وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ أو تعليلاً تقرر في أحكام البيع. فلا يكون مجتهداً إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض، ومن مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح.
وثانيها: أن المجتهد مأجور، إن أصاب فله أجران:
أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الصواب، وإن أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، لأننا قدمنا أن الله سبحانه ما ترك الناس سدى، بل شرع لكل فعل من أفعال المكلفين حكماً، ونصب لكل حكم دليل يدل عليه، وطلب من أهل النظر في هذه الأدلة أن ينظروا فيها ليهتدوا إلى حكمه، فمن توافرت فيه أهلية النظر فيها، واجتهد حتى وصل إلى الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، فهو مأجور على هذا الاجتهاد وواجب عليه أن يعمل في قضائه وإفتائه بما أداه إليه اجتهاده لأنه حكم الله حسب ظنه الراجح، والظن الراجح كما قدمنا، كاف في وجوب العمل. ولا يجب على غيره أن يقلده في العمل بما وصل إليه اجتهاده، لأن قول أي إنسان بعد الرسول المعصوم ليس حجة واجباً أتباعه على أي مسلم، وإنما يجوز للعامة الذين ليست لهم ملكة الاجتهاد واستثمار الأحكام من نصوصها، أن يتبعوا المجتهدين ويقلدهم مصداق قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]
ثالثها: أن الاجتهاد لا ينقض بمثله:
فلو مجتهد في واقعة وحكم فيها بالحكم الذي أداه إليه اجتهاده، ثم عرضت عليه صورة من هذه الواقعة فأداه اجتهاده إلى حكم آخر، فإنه لا يجوز له نقض حكمه السابق، كما لا يجوز لمجتهد آخر خالف في اجتهاده أن ينقض حكمه، لأنه ليس الاجتهاد الثاني بأرجح من الأول، ولا اجتهاد أحد المجتهدين أحق أن يتبع من اجتهاد الآخر، لأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يؤدي إلى أن لا يستقر حكم وإلى أن لا تكون للشيء المحكوم به قوة، وفي هذا مشقة وحرج.
وقد ورد أن عمر بن الخطاب قضى في حادثة بقضاء، ثم تغير اجتهاده فلم ينقض ما قضى به أولاً، بل قضى في مثل هذه الحادثة بالحكم الآخر الذي أداه غليه اجتهاده الثاني، وقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. وقد قضى أبو بكر في مسائل وخالفه بعده عمر فيها ولم ينقض حكمه، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم قول عمر بن الخطاب في عهده لبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء: (لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل).

.القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم:

لا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما في حياته، فقد اقتضت سنة التدرج بالتشريع، ومسايرته المصالح نسخ بعض الأحكام التي وردت فيهما ببعض نصوصها نسخاً كليا، أو نسخاً جزئيا.

.النسخ في اصطلاح الأصوليين:

هو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمناً، إبطالاً كلياً أو إبطالاً جزئياً لمصلحة اقتضيته، أو إظهار دليل لاحق نسخ ضمناً العمل بدليل سابق.

.حكمته:

وهذا النسخ وقع في التشريع الإلهي، ويقع في كل تشريع وضعي، لأن المقصود من كل تشريع سواء أكان إلهيا أم وضعيا تحقيق مصالح الناس. ومصالح الناس قد تتغير بتغير أحوالهم. والحكم قد يشرع لتحقيق مصالح اقتضتها أسباب، فإذا زالت هذه الأسباب فلا مصلحة في بقاء الحكم. كما ورد أن وفوداً من المسلمين وفدوا على المدينة في أيام عيد الأضحى، فأراد الرسول أن يقيموا بين أخوانهم في سعة، فنهى المسلمين عن ادخار لحوم الأضاحي حتى تجد الوفود فيها توسعة عليهم، فلما رحلوا أباح للمسلمين الادخار، وقال عليه السلام: «إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ألا فادخروا»، ولأن عدالة التشريع تقتضي التدرج وعدم مفاجأة من يشرع لهم بما يشق عليهم فعله، أو ما يشق عليهم تركه، وهذا التدرج يقتضي التعديل والتبديل.
كما وقع في حكم الخمر، فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع تحريمها في ابتداء التشريع، ولكن بين سبحانه أن فيها إثماً كبيراً، ومنافع للناس، وأن أثمها أكبر من نفعها، وكان هذا تهيئة وتمهيداً إلى تحريمها، لن الذي ضرره أكبر من نفعه يجدر بالعقل أن يجتنبه، ثم أمر المسلمين أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكان هذا تمهيداً ثانياً لتحريمها واجتنابها، لأن أوقات الصلاة متعددة ومتفرقة، فلا يأمن المسلمون إذا شربوها أن يدخل عليهم وقت الصلاة وهم سكارى. ثم بعد ذلك جاء النص الصريح على أنها رجس من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها.
وكذلك نظام التوريث، بقي فترة في بدء الإسلام على ما كان عليه عند العرب في جاهليتهم، ثم أخذ الإسلام في تعديله بالتدريج، فنسخ أولاً الإرث بالتبني، ثم نسخ الإرث بالتحالف والتآخي، ثم شرعت للتوريث أحكام مفصلة، هدمت الأسس الجائزة التي كان عليها أهل الجاهلية في نظام توريثهم.

.أنواعه:

قد يكون النسخ صريحاً، وقد يكون ضمنياً.
فالنسخ الصريح أن ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق، ومثال ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66، 65]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الحياة الآخرة»، وقوله عليه السلام: «إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لجل الدفة ألا فادخروا».
وهذا النسخ الصريح هو الكثير في التشريع الوضعي فإن القوانين التي تصدر معدلة لقوانين سابقة، ينص فيها صراحة على النصوص الملغاة في تلك القوانين السابقة أو على إلغاء كل حكم في قانون سابق مخالف ما نص عليه في هذا القانون، كما نص الأمر الملكي بدستور سنة 1930 صراحة على إلغاء دستور سنة 1923، وكما نص قانون التسجيل صراحة على إلغاء نصوص القانون المدني.
وأما النسخ الضمني فهو أن لا ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق، ولكن يشرع حكماً معارضاً حكمه السابق، ولا يمكن التوفيق بين الحكمين غلا بإلغاء أحدهما، فيعتبر اللاحق ناسخاً للسابق ضمناً.
وهذا النسخ الضمني هو الكثير في التشريع الإلهي، فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]، يدل على ذلك أن المالك إذا حضرته الوفاة عليه أن يوصي لوالديه وأقاربه من تركته بالمعروف. وقوله تعالى في آية التوريث: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]، يدل على أن الله قسم تركة كل مالك بين ورثته حسبما اقتضت حكمته، ولم يعد التقسيم حقاً للمورث نفسهن وهذا الحكم يعارض الأول، فهو ناسخ له على رأي الجمهور، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت آية المواريث: «إن الله أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث».
ومثاله في التشريع الوضعي: الأمر الملكي الصادر بدستور سنة 1923 فإنه تضمن أحكاماً كثيرة تخالف الحكام الدستورية السابقة عليه، ولم ينص صراحة على إلغائها فاعتبر ناسخاً لها ضمناً، وقانون العقوبات الجديد لم ينص صراحة على إلغاء ما خالف أحكامه من قوانين العقوبات السابقة، فاعتبر ناسخاً لها ضمناً.
ويرى بعض رجال التشريع الاكتفاء بهذا النسخ الضمني، والاستغناء عن التصريح بالنسخ، لأنه تأكيد في مقام لا يقتضي التأكيد، فإن تشريع الشارع حكماً معارضاً لحكم شرعه من قبل ولا يمكن الجمع بينهما هو عدول من الشارع عن حكمه السابق، وإبطال له من غير حاجة إلى التصريح بأنه عدل عنه أو أبطله,
وقد يكون النسخ كليا، وقد يكون جزئيا:
فالنسخ الكلي أن يبطل الشارع حكماً شرعه من قبل إبطالاً كلياً بالنسبة إلى كل فرد من أفراد المكلفين، كما أبطل إيجاب الوصية للوالدين والأقربين بتشريع أحكام التوريث ومنع الوصية للوارث، وكما أبطل اعتداد المتوفى عنها زوجها حولاً باعتدادها أربعة أشهر وعشراً، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234].
والنسخ الجزئي أن يشرع الحكم عاماً شاملاً كل فرد من أفراد المكلفين، ثم يلغى هذا الحكم بالنسبة لبعض الأفراد، أو يشرع الحكم مطلقاً ثم يلغى بالنسبة لبعض الحالات. فالنص الناسخ لا يبطل العمل بالحكم الأول أصلاً، ولكن يبطله بالنسبة لبعض الأفراد أو بعض الحالات.
مثال ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، يدل على أن قاذف المحصنة الذي لم يقم بينة على ما قذف به يجلد ثمانين جلدة، سواء كان زوجها أم غيره. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]، يدل على أن القذف إذا كان الزوج لا يجلد بل يتلاعن وزوجته. فالنص الثاني نسخ حكم جلد القذف بالنسبة على الأزواج فقط.
وإنما يكون نسخاً جزئياً إذا شرع أولاً حكم العام على عمومه، أو المطلق على إطلاقه، ثم بعد ذلك بفترة حكم لبعض أفراده، أو بقيد. وأما إذا ورد العام في القانون وورد في القانون نفسه تخصيص بعض أفراده بحكم يكون هذا التخصيص بياناً للمراد من العام لا نسخاً، وكذلك يكون التقييد بياناً للمراد من المطلق لا نسخاً.
وهذا معنى قول الأصوليين إخراج بعض أفراد العام من حكمه، أو تقييد المطلق بقيد إذا كان بدليل مقارن تشريع حكم العام أو المطلق، ويعتبر بياناً للمراد العام أو المطلق بمنزلة الاستثناء ولا يعتبر نسخاً.
والحكام الشرعية وغن كانت شرعت تدريجياً في اثنين وعشرين سنة وشهور، ولكن بعد وفاة الرسول واستقرار التشريع، صارت في حق المسلمين قانوناً واحداَ، فالخاص منه بيان للعام، والمقيد بيان للمطلق، من غير نظر إلى أن هذه الآية بعد هذه الآية في التلاوة، أو في سورة بعد السورة التي فيها الآية، إلا ما نص عليه من ناسخ ومنسوخ.
وقد يكون النسخ بتشريع حكم بدل حكم كما نسخ إيجاب الوصية للوالدين والأقربين، بتقسيم الإرث، وكما نسخ الاتجاه على بيت المقدس في الصلاة بالاتجاه إلى الكعبة، وكما نسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها بالتربص حولاً، باعتدادها بالتربص أربعة شهور وعشرة أيام، وقد يكون النسخ بمجرد إلغاء الحكم كنسخ زواج المتعة.
وكما يجوز أن يكون الحكم الذي شرع مساوياً الحكم الذي نسخ، أو أخف منه على المكلفين، ويجوز أن يكون اشق منه عليهم، لأن هذا الإلغاء والتبديل إنما قضت به مصالح المكلفين، وقد تقضي مصلحتهم حكماً اشق عليهم من المنسوخ، فتحريم الخمر والميسر اشق عليهم من إباحتهما، ولكن قصد به المصلحة، وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، المراد بالخير ما يكون أصلح للمكلفين، سواء كان أشق عليهم أم مساوياً أم أخف، هذا إذا كان المراد آيات القرآن في قوله تعالى: {ما ننسخ من آية} [البقرة: 106].